02‏/01‏/2011

!! بل الإلحاد دين وإيمان


الحمد لله وحده..
أما بعد، فكثيرا ما يقول الملحدون: "الإلحاد ليس إيمانا"
انه حالة غياب الإيمان وغياب الدين!
هكذا يدعون..
فأقول: أنت لا تفهم معنى الدين ولا الإيمان إذا !

كيف لا يكون الإلحاد إيمانا وهو قائم على اعتقاد في الغيب، تنبني عليه مواقف وأعمال وأقوال للقلب واللسان، هي في جملتها، على اختلافها من ملة إلى ملة، ما يقال عليه "ملة" و"دين"؟؟ الدين هو جملة من العقائد في الغيب بشأن الخالق وما فعل وما هو فاعل بعد بمخلوقاته، ينبني عليها جملة من الأقوال والأفعال والسلوكيات و"الأخلاقيات" التي يعيش الإنسان بها ويدعو إليها! فهل يخلو الملاحدة من اعتقاد في شأن الغيب مفاده أن المسؤول عن الخلق الذي نراه ليس هو الخالق الحكيم الذي يؤمن به الموحدون وإنما هو مادة صماء على مستوى الجينات أو غيرها، تنتقي وتنتخب وترقي وتحسن وكذا (بعقل أو بغير عقل، بإرادة أو بغير إرادة ليست هذه قضيتنا)؟ هذه عقيدة في الغيب، سعى أصحابها بتأليفهم لها وتعضيدها بسبل ما يظنونه استدلالا على صحتها، إلى ملء سائر الفراغات الواسعة 

والعميقة التي خلفها في قلوبهم تركهم لوحي السماء وراء ظهورهم! هي عقائد غيبية، لولا أن كانت عند الملاحدة لا تقل رسوخا عن نظيرها من الاعتقاد في الغيب عند الموحدين، لما رأيتهم يملؤون المنتديات بنعيقهم ودعواهم وسعيهم الدؤوب في سبيل إثبات صحتها وصد هجمات الموحدين عليها! أليس كذلك ؟؟ 

عندما يخرج الداعية من دعاة الإلحاد بكتب ومؤلفات يسعى فيها سعيا حثيثا لإقناع العالم بأن كل خير يجدونه في أديانهم، يجد الملحد مثله فيما ينتهجه ويعتقد صحته، ولا يحتاج إلى الاعتقاد في وجود رب خالق – بزعمه – حتى يتحصل عليه .. أليست هذه دعوة إلى دين متكامل في مكان الأديان الأخرى؟ معتقد في الغيب وما بعد الموت، ونموذج أخلاقي منبثق عنه لتعريف الخير والشر ونشأة ذلك المفهوم في الناس وغايته ومآله، مع منطلقات للعمل الخيري والدعوة لذلك المذهب الفكري تنافح عنه لتنزع الديانات الأخرى من قلوب الناس وتنزل في مكانها ... أليس هذا هو ما يسميه العقلاء بالدين؟؟ 

إذا كانت عقيدتنا نحن الموحدين ينبني عليها جهادنا بالكلمة في سبيل بيانها ونصرتها ودعوة الناس إليها، ففي مقابل ذلك عقيدتكم أيها الملاحدة ينبني عليها عملكم وسعيكم وجهادكم بالكلمة في سبيل نصرتها وإثباتها والدفاع عنها كذلك، بل والهجوم بها - الهجوم الشديد - على خصومها كما هو دأب داوكينز وأضرابه! قفوا مع أنفسكم لحظة واحدة وتأملوا فيما أنتم فاعلون هنا وفي غير هذا المكان يتبين لكم! انظروا في قلوبكم يتبين لكم! انظروا إلى احمرار وجوه بعضكم وتعصبكم وشدة حرصكم على الانتصار لنظرية داروين المتهافتة، كما لا يكون مع أي نظرية أخرى من نظريات العلم في الدنيا ولا يكون – حقيقة – إلا من صنيع الكهنة عندما يجابهون بما يهدم لهم دينهم! انظروا وتأملوا بصدق! كذب من ادعى منكم أنه يرى أن نظرية داروين قد يأتي في يوم من الأيام من يقدم للناس تفسيرا لنشأة الحياة أفضل منها! لماذا؟ لأننا هنا لم نزل ننادي فيكم نداء الحي في قبور الموتى، أن دعوا عنكم تعصبكم لهذه النظرية بالذات وزنوا الأمر بذات الميزان العقلي الذي تطبقونه على سائر نظريات العلم الدنيوي الأخرى، واصدقوا أنفسكم القول، وأقروا بما هو بين الفساد في أصول فكرة داروين، فان فعلتم، لم يكن لكم إلا الإقرار بما لا يدانيه في وضوحه إلا قرص الشمس في كبد سماء اليوم المشرق!! ولكنه تعصب سائر أهل الملل الباطلة سواء بسواء! نضرب الأمثال والقياسات الواضحة الجلية لهم على مخالفة استدلالاتهم كلها فيما يستدلون به لأصول العقل السوي، ولأصول يلزمهم ان خالفوها أن يهدموا البحث العلمي كله من أساسه، ومع ذلك يصرون على التمسك بالنظرية ويتذرعون لها بذرائع لو سمعوا جورو من السيخ يتلمس مثلها لعبادة البقرة لسخروا منه ولرموه بفساد عقله!!

فيا سادة، الخرافة في أمر الغيب هي الخرافة والأسطورة هي الأسطورة، سواء كانت في قالب عاطفي وثني، أو في قالب مادي طبيعي! والحال أنكم جميعا تؤمنون بعقيدة غيبية في الغيب الماضي – والمستقبل تبعا – وفي الغيب المكاني – ما وراء الكون – مبناها باطل عقلا – تماما كالثالوث والتجسد والأوتار الهندوسي ووحدة الوجود ونحوه من خرافات الملل - ولا يمكنكم إثباته بحال من الأحوال! ففي أي شيء خالفتم أهل الملل والأديان إلا في قلب دعواهم – كما يفعل كل منهم بدعوى الآخر؟

يقولون: كما أنكم لا تؤمنون بكل إله يخالف معبودكم، نحن مثلكم لا نؤمن بتلك الآلهة أيضا، غير أننا نزيد عنكم جميعا بإله واحد نضمة إلى جملة ما كفرنا به من الآلهة، وهو الإله الذي يعبده أهل كل ملة منكم .. وهذا هو الفرق بيننا وبينكم! هذه الحجة التي أطلقها داوكينز وتبعه عليها غيره من الملاحدة وأعجبوا بها أيما إعجاب، إنما هي حجة البلداء والجهلاء! كمن يقول: أنت ترى عدة خيارات أمامك في قضية من القضايا، ولا تدري على وجه التحقيق أيها هي الحق، وإنما تقلد غيرك في التمسك بالخيار الذي ذهبت إليه، أما أنا، فأنا أشجع منك! أقرر بصراحة أني لا أدري أي تلك الخيارات هو الحق، ولهذا فقد توصلت إلى القرار بنبذها جميعا دون تفرقة!

هذه شجاعة العميان يا سادة! والمتكلم بها لا يوافق على قراره هذا إلا أن تحقق بالدليل اليقيني القاطع من أنه ليس ثمة ملة أخرى في الأرض فيها من مقومات الدلالة والبرهان العقلي ما يرقى ليكون هو الحق في مقابل ما اختاره هو من تفاسير لقضايا الغيب! أما أن ينظر في النصرانية – مثلا – فينقض الثالوث وما في العهدين من تناقضات، - وهو مصيب في ذلك القدر - فيحكم بذلك على بطلان سار الملل والديانات وتخلفها عن إصابة ما به يكون الحق حقا، فهذا سفه محض ورعونة وحماقة لا يتكلم بها إلا الصبيان، وان تلقبوا بلقب بروفيسور ونالوا أعلى الشهادات!!

فأما أنك أيها البروفيسور الملحد على يقين من صحة ما تزعمه من أمر الغيب، لأن أدلتك التي تقف عليها لا شك فيها ولا مرية، فلا يلزمك حينئذ النظر في الملل الأخرى نظر الباحث عن تفسير يرضاه عقله، ولا يفعل ذلك إلا لإثبات بطلان ما عند مخالفيه جميعا، وأما أنك على شك، ذلك الشك الذي تزعم بوصفك عالما للطبيعيات أنه هو أساس تناولك لسائر مسائل الطبيعة، فأنت على استعداد دائما في ضوء ذلك الشك إلى قلب ما تبنيته من نظريات وقبول غيره في مكانه في أي لحظة بمجرد أن يثبت لك بالدليل! فإن كانت على الثانية، ولا تدري أحق ما أنت عليه أم باطل، ولا تتمسك به إلا لأنك إلى الآن لم تجد ما يقنعك بخلافه، فما بالك تدعي حسن الاستقراء وتمامه لما يزعمه أهل الملل والأديان في أمر الغيب بشأن خالق الكون وما يعتقدونه فيه، وأنت غاية ما فعلته أن قرأت كتابا من هنا وكتابا من هناك، في ملة أو ملتين من الملل الباطلة، وان قرأت عن ملة الحق لم تقرأ من ثقات علمائها – غالبا كما فعلت في غيرها من الملل – وإذا نظرت لم تنظر إلا إلى الإرهاب هنا، والدموية هناك، والحرب والقتال في سبيل الدين وما إلى ذلك مما لم تتأهل لا عقلا ولا علما للنظر في دلالاته وأصوله ومواقف أصحابه منه وتعليلاتهم له، ثم إذا بك بعد ذلك كله تخرج بالنتيجة الجازمة بأنك، وبكل ثقة، تؤمن بأن سائر الملل باطلة وخرافات وأساطير، ولذلك فلا تختلف عن أهل أي ملة منهم إلا في كونك تكفر بإله واحد زيادة عنهم جميعا ؟؟؟ 

لقد أحسن البروفيسور النصراني جون لينوكس الرد في مناظرة له مع مايكل شيرمر عندما ذكر شيرمر هذه العبارة إذ رد بقوله: إن مثل قولك هذا كمثل الذي يقول أن الفرق بين المتزوج والمتبتل المترهبن هو أن الأخير نقص عن الأول بفرق زوجة! انه الكبر والغرور المحض الذي لا يقوم على علم ولا دليل ولا استقراء أبدا!

لما سئل ريتشارد داوكينز في يوم من الأيام في زيارته لإحدى جامعات أمريكا سؤالا بسيطا: "ماذا لو كنت مخطئا؟" اندفع بكل استكبار وعلو للرد على سائلته، يقرر في البداية أمرا بديهيا لا يخالفه عليه العقلاء، ألا وهو أن كل من نشأ في بيئة تؤمن بدين ما، فإنه يؤمن به تبعا لهم، ويتربى عليه، فلم يكن هو الذي اختاره بطبيعة الحال .. ثم إذا به بعدها يقول، "نعم أي أحد يمكن أن يكون مخطئا، ولكن" .. يضيف هازئا مازحا: "ماذا لو كنت أنت مخطئة بشأن الجوجو الصغير في قاع البحر؟" (يشير إلى عقيدة من عقائد القبائل الوثنية البدائية)!! فيضحك الناس في القاعة، وينتفش الرجل المسكين ويحسب أنه بذلك قد أقام حجة عقلية على سائلته!!

فهل هذه إجابة؟ هذا هروب واضح وحيدة لا تخفى إلا على أعمى! قلها صراحة يا بروفيسور! لو كنت مخطئا، فانك ولابد ستلقى مصيرا أبديا بعد موتك لا تعلمه! مصيرا تصفه إحدى تلك الملل التي كذبت بها، والتي ربما كان الحق في إحداها!! هكذا ينبغي أن يكون جواب من ينتسب إلى البحث العلمي ويلقب نفسه بالبروفيسور!! الجواب العلمي الصحيح، أن يقول بكل بساطة: لا أدري! فهو فعلا لا يدري! هو يتبني نظرية يدعي أنه يقبل احتمال أن يثبت في يوم من الأيام بطلانها! فكيف يخرج هذا الكلام وهذا الأسلوب ممن هكذا دعواه؟؟ هذا كلام رجل دين، كلام كاهن ينتصر لملته، على الرغم من إقراره بقيامها على الجهل وعدم الدليل، وليس بكلام باحث علمي أبدا!!

ولكن أي علم هذا الذي تنتسب إليه ملة الإلحاد ؟؟؟ 
انها دين في مكان الأديان ولو زعموا خلاف ذلك! 

إن الذي يؤمن بأن الدنيا خرجت من بطن تنين كبير وبأن الكائنات الحية كانت كلها هدية من إله الشمس صنعها ليمتن بها على البشر، وبأن ابن الشمس قتل نفسه من بعد ما تجسد للناس إنسانا مثلهم لينالوا هم الخلاص، هذا لا يختلف من جهة القدرة على البرهنة على صحة عقيدته تلك، عن الذي يؤمن بأن الدنيا كانت مادة من مادة من مادة أزلية لا ابتداء لها، وأنه كان في الأرض زمان لا حياة فيه إلا في بركة قديمة ظهرت فيها أحاديات الخلية، ثم مضت إلى سمكة اضطرتها الظروف للخروج إلى البر، إلى زاحف اضطرته الظروف للطيران، إلى قرد إلى إنسان، يحرك ذلك كله في الغيب حرص وإرادة – بلا عقل ولا إرادة، وتأمل – للجنيات على الحفاظ على بقائها من خلال تكاثرنا!! فان أثبتنا نحن الموحدون لهؤلاء وهؤلاء بطلان أسطورتهم وفساد أصولها العقلية، ومخالفتها لصريح العقل والفطرة، رمانا أتباع داروين بالقصور والعجز عن التصور "العلمي"، وزعموا أن العلم ينصرهم!!

فوالله لهم أشد اعتقادا و"إيمانا" بنظرية داروين، من إيمان بعض الموحدين بدينهم الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله! نعم، فالإيمان يتفاضل بين المنتسبين إليه، وهو قول وعمل، ليس مجرد دعوى باللسان يكذبها عمل الأركان! بل العمل برهان الإيمان وعلامته! ودعاة الإلحاد يسهرون الليالي في الرد والجدل والمحاربة الفكرية في قضية هي قضية حياتهم، فلو لم يكن إيمانهم بها - بغض النظر عن فساد أساسه في قلوبهم وتذبذبها فيه وقيامه على التقليد المشوب بالشك والريبة العميقة - هو حاديهم وحاملهم على هذا الدأب، فماذا يكون إذا ؟؟ إن لم يكن هذا إيمانا - على فساده ومرضه البين في قلوبهم - فما الإيمان إذا ؟؟ وكيف يفهمون معنى كلمة إيمان ؟؟؟ لو سألته : هل تؤمن بصحة نظرية داروين، فبم يجيب؟ هل سينفي أنه يؤمن بها؟ 

سيقول متفلسفوهم: الإيمان عندنا هو كل معتقد قائم على اتباع سنن الآباء بلا ارتكان إلى دليل أو برهان! ونقول هذا جهل منكم، لأن الإيمان ليس هذا هو معناه لا لغة ولا اصطلاحا! فان كان هذا هو ما غلب - ولابد - على سائر المنتمين إلى الملل الباطلة - وأقول ولابد لأنها لو كانت حقا لما عدموا لها دليلا يشيدوا إيمانهم بها عليه - فأهل الملة الحق في هذه الأرض لا يشيدون إيمانهم على موروث الآباء بالتقليد الأعمى، ومن فعل ذلك فهو في محل مذمة عندهم، وان كانوا أكثر أتباع الملة! فالتقليد عند أهل الحق مذموم مذمة أكل الميتة، ولا يباح عندهم إلا من ضرورة! وضد التقليد، الاجتهاد وهو معرفة الشيء - خبرا كان أو تكليفا - بالدليل، من بعد تحقيق صحة الدليل وصلاحيته للاستدلال ابتداءا! ولهذا فأهل الحق فيهم من علوم ومعارف تنقيح الأدلة وتحقيقها ما لم تعرفه أمة أخرى على وجه هذه الأرض أبدا! فإطلاق أهل الإلحاد بأن الإيمان هو ضد العلم القائم على الدليل، لمجرد أنهم كلما نظروا فيمن حولهم في مجتمعاتهم الكافرة المتهاوية ممن ينسبون أنفسهم إلى الإيمان، لم يجدوهم في ذلك إلا مقلدة مستشربة قلوبهم لما يخلفه آباؤهم وأهليهم في مجتمعاتهم من عقائد وخرافات، هذا فساد بين وانخرام واضح في منطق النظر والتفكير والاستدلال!

لا يحق لي أن أقول - من جهة الاستقراء - أنه بما أني لم أر اليوم صباحا - مثلا - وأنا في طريقي إلى العمل، إلا سيارات بيضاء اللون في الشارع، إذا فجميع السيارات في الأرض بيضاء ولابد، ولا يوجد للسيارات لون آخر!! هذا ليس استقراءا، هذا جهل مبين!! وهذه هي حقيقة الإلحاد: كيان اعتقادي بأحكام في أمر الغيب ومتعلقاته، مبناها تأصيل الجهل وتنظيره وتزيينه في لبوس العلم وليس بذاك، ولا قريبا منه!! فهل الملحد من هذه الجهة "مؤمن" ؟ نعم ولاشك، هو مؤمن بمحتوً عقدي فكري قرأه وسمع به ونشأ عليه! ولولا هذا ما اقتنع به!

وإلا فأنا وكل عاقل مثلي يجزم بأنه لو ترك الإنسان على طبيعته منذ مولده بلا تأثر ولا تعرض لنظرية داروين ولا لغيرها من النظريات والفلسفات التي نشأت في حوض الإلحاد، فإنه لن يملك إلا أن تحمله نفسه وعقليته السوية على الاعتقاد بضرورة العقل في وجود كيان عظيم فيما وراء هذا الكون، هو الخالق وهو الرازق والقائم على شئون سائر تلك الأمور الجارية في جسده ومن حوله والتي لا يملك من أمرها شيئا! هو ذا الكيان الذي يجأر إليه كل إنسان أيا كانت ملته عند الغرق أو عند وقوع الشدائد .. هو ذا الذي يرفع إليه عينيه في السماء بتلقائية يتلمسه هناك وان لم يكن يدعوه باسمه!! سيجد نفسه - ولابد - مقرا بوجود الخالق! كل طفل يولد على الفطرة فكما أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فقد "يلَحِدانه" كذلك! ولو لم يسمع الطفل عن الديناصورات ولا عن العصر الحجري ولا عن أصل الأنواع شيئا، ولو لم يسمع استدلال القوم بذلك على عدم وجود خالق عليم متقن لصنعته، لما خالف فطرته إلى ذلك المعتقد الواضح البطلان .. بل لكان سعيه – إن افترضنا نشأته في معزل عن أهل يتلقى منهم دينهم – جادا في سبيل معرفة خالقه الذي يشعر في قرارة نفسه بأنه يدين له بالخضوع والعرفان والشكر، ولنظر عند أهل الأديان بحثا عنه، ولما خطر في قلبه طرفة عين أن ينكره، ناسبا ذلك الملكوت المذهل في الكون إلى الصدفة والمادة وغير ذلك مما يأفكون!! فهل هذه الفطرة التي لا ينكرها إلا مكابر، سببها فساد في عقول البشر جميعا، كانوا وما زالوا يولدون به جميعا من قديم الزمان إلى يوم الناس هذا، ولا يفلح في علاجهم منه إلا ما جاء به داروين، أو الذين سبقوه من فلاسفة الإلحاد؟؟؟ عقول سائر البشر فيها مرض وعلة تحملهم على هذا الشعور في عمق قلوبهم، لأنهم يجهلون "بنظرية" داروين وأتباعه؟؟؟ يا للكبر والنزق! 

هل ما يستند إليه أهل الإلحاد دليل يصح وصفه بأنه دليل؟ هل نظرية داروين دليل؟ هل الانفجار الكوني دليل؟ هل النظرية، أيها الملحد، من حيث كونها تفسيرا يتصوره إنسان مثلي ومثلك، له خلفيته الثقافية التي نشأ منها، وتصوره البشري القاصر قصور البشر، ترقى في ذاتها لأن تكون دليلا لك، وإن آمن بها سائر أهل الأرض جميعا؟؟ كلا ! فإن كانت حجتك أن أهل "الإيمان" يميزهم بعمومهم الارتكان على إيمان موروث يدافعون عنه ويشيدون على أساسه عقيدتهم في أمر الغيب ويعملون به ومن أجله، ولم يستقروا فيه على دليل صحيح تنشرح له الصدور وترضى به العقول، فيا هذا الملحد إعلم أن أحق الناس بهذا الوصف لما يدين به ويجادل عنه إنما هو أنت! ! !

أنت صاحب دين باطل وإيمان فاسد، كغيرك من أهل الأديان، من أجله تنافح وعنه تجادل كما يجادلون، فراجع نفسك قبل فوات الأوان واسأل نفسك بصدق وتجرد :
"ماذا لو كنت مخطئا؟؟؟؟؟"...

أقولها وأفوض أمري إلى الله، والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين.

ومما يلفت النظر أن الملاحدة اليوم أصبحوا يقلدون داوكينز وغيره من متأخري تلك الملة في الزعم بأنها ليست ملة أصلا، وحجتهم في ذلك قياس موقفهم من سائر الآلهة المعبودة عند أهل الملل بموقف كل صاحب ملة من سائر الآلهة بخلاف إلهه الذي يعبده .. يقولون للنصراني مثلا: أنت ملحد فيما يتعلق بزيوس، ونحن كذلك ملحدون فيما يتعلق بزيوس وغيره، بما في ذلك إلهك أنت.. وهذا هو غاية موقفنا .. التكذيب! بهذا الكلام يتصور داوكينز أنه قد أثبت أن الإلحاد بجملته ليس دينا أو إيمانا! إذ كيف يكون إيمانا وهو نفي لا إثبات؟ هكذا يحتجون .. ونقول لهم وهل كونكم تؤمنون إيمانا راسخا بأنه ليس فيما وراء الكون شيء، وأنه ليس فيما قبل الكون خلق أول، هل هذا ينفي عن تلك العقائد صفة الإيمان عندكم، ولا يجعلها دينا في مكان الدين؟ كلا ولا شك! هي إيمان حتى على اصطلاحكم أنتم للإيمان! أنتم تقولون أن الإيمان هو الاعتقاد في شيء دونما الوقوف على دليل يثبته، وهذا كما بينا آنفا ليس هو معنى الإيمان عند العقلاء ولا يلزم من كون المرء مؤمنا بشيء لم يره، ألا يكون قد وقف له على دليل! ولكن نقول حتى على هذا المفهوم للإيمان عندكم، فإنكم كغيركم : أهل ملة أنتم بها مؤمنون وبغيرها كافرون! فهذا المعنى: ليس فيما وراء الكون شيء يستحق أن يعبد ويطاع، هذا معتقد غيبي يستوي من حيث محله في قلوب أهل الديانات كلها، باعتقادهم في وجود اله في الغيب بصفة عامة يستحق أن يعبد! فأنتم أهل معتقد غيبي هو دينكم الذي تدينون به! أليس حين يسأل الواحد منكم عن دينه يقول أنا ملحد؟ وحين يسمع الناس كلمة ملحد، تنطلق أذهانهم الى عقيدة مفادها الإيمان بأنه ليس وراء الكون إلا الفراغ اللانهائي، وأنه ليس وراء نشأة الكون كيان عاقل يستحق أن يعبد؟ بلى!
فالشاهد أن قياس القوم لملتهم واعتقادهم من جهة نفي وجود فلان وفلان من الآلهة المعبودة على صنيع أهل الملل الأخرى إذ ينفون كل ما يخالف معبوداتهم، هذا القياس إنما يلحقهم بجملة أهل الملل حقيقة ولا يفصلهم عنهم كما يتصورون! فهو بضرورة العقل لا ينفي عنهم صفة الإيمان بما يجعلونه في مكان تلك الآلهة جميعا، بناءا على نظرياتهم، أيا ما كان ذلك!! فلولا أنهم عندهم ما يجعلونه في مكان تلك الآلهة - وان كان عدما! - وهم به مؤمنون مصدقون وله متحيزون، لما نفوا تلك الآلهة جميعا وما جزموا بذلك الذي يقولون به، ولما جادلوا عن اعتقادهم هذا على نحو ما يفعلون!! فان قالوا نحن ننفي ولا نثبت، قلنا لهم بأي حجة نفيتم إذا ما نفيتم إن لم يكن عندكم ما تثبتونه في مكانه؟؟ عندما يأتيك من يقول لك سيارتي زرقاء، فتقول له أنت كذاب .. أنت لا تملك سيارة! هل هذا النفي يمكن القول به والذهاب إليه - فضلا عن الانتصار له والمجادلة عنه - لمجرد عدم العلم بدليل صحة دعوى المتكلم وصدقه فيها؟؟ كلا ولا شك! ولولا أنكم قد آمنتم بصحة نظرية داروين وبأنها خير ما أنتجته عقول البشر كما يقول داوكينز وغيره، وبأنها (تغني) عن الحاجة إلى الإعتقاد في وجود إله عاقل مدبر، لما نفيتم ما تنفون هكذا بثقة لا تقع إلا في نفس رجل اتخذ من تلك النظرية دينا وإيمانا! !
يجب أن يكون عندك دليل صحيح لتنفي وجود شيء في الغيب كما أنه يجب أن يكون عندك دليل لتثبت، سواء بسواء! فحتى على اصطلاحك أنت للإيمان = أنت مؤمن يا بروفيسور!
فالله المستعان!
بقلم : أبو الفداء